أحمد ... أين "الله " ...؟
اليوم فى الثانية صباحاً إلتقيت بأحمد للمرة الثانية ، يرتدى " سويت شيريت " أصفر نظيف و لكننى أظنه لا يستطيع أن يحمى جسده الهزيل من برد ليلة من ليالى يناير .... أحمد يتجول بين رواد المقهى الذى أجلس فيه وحيداً أقرأ جرائد اليوم الجديد ، أخبرنى أحمد أن غداً هو أخر أيام الإمتحانات فلديه إمتحان علوم و مادة أخرى لا أذكرها ، بعد ساعات قليلة كان أحمد ذو الأحد عشر عاماً التلميذ فى الصف الخامس الإبتدائى ذو الوجه الشاحب الذى يحمل كل براءة الدنيا على موعد مع إمتحانات اليوم الأخير من النصف الأول للعام الدراسى و لكنه كان مضطراً أن يجول بين المقاهى ليبيع المناديل الورقية ، أحمد محروم من حقوق كثيرة فى هذه الدنيا حتى حقه فى أن ينام ساعات كافية قبل أن يذهب إلى الإمتحان .... تعاطفتم معه ... أليس كذلك ؟ و لكن - و بصراحة شديدة - ليذهب تعاطفكم إلى الجحيم ، فلن يفيد أحمد فى شئ أن تتعاطفوا معه أو لا ، بل و حتى دعوات أو صلوات المتدينين منكم لن تفيد أحمد فى شئ ..........
لم أسأل أحمد ذو البراءة الملائكية عن ظروف أسرته أو أين يسكن ، خفت إن سألته أن أجرح كرامته أو كبرياؤه البادى - رغم خجله – و بالأكثر خفت أن أجرح براءته . لا أعرف إن كان أحمد إستطاع أن يجيب عن أسئلة الإمتحان اليوم و هل ستكون " سهلة ميه" كما وصف أسئلة مادة الدراسات الإجتماعية التى أدى إمتحاناتها يوم الخميس ، و لكنه و بالقطع لن يستطيع أن يجيب إن سألناه : من المسئول عما يحدث له ؟
لم أعرف ماذا أقول لأحمد ، أعرف فقط أن هذا ليس عدلاً ، أعرف أن أبسط حقوق أحمد فى ليلة إمتحانه أن يتناول عشاؤه و يذهب للنوم فى فراش نظيف دافئ يقيه برد طوبة ، أفهم أن أبسط حقوقه هى أن ينام ثمان ساعات ليذهب إلى الإمتحان متيقظاً .... حتىهذه الحقوق البسيطة لا يستطيع أحمد أن يحصل عليها ، أخبرنى أحمد إنه "شاطر فى المدرسة" ، قارنت بين أحمد و بعض أطفال أصدقائى أو أقاربى - ثقيلى الدم و عديمى البراءة - الذين يدفع لهم أبائهم ألاف الجنيهات سنوياً فى مدارس ذات أسماء معقدة ، لماذا لا يحصل أحمد على أقل الحقوق مثلهم ؟؟
ربما يكون أحمد على نفس درجة ذكاء ذلك الطفل الأخر – أظن إسمه وائل – الذى تستضيفه الفضائيات و تكتب عنه الجرائد لإرتفاع معدلات ذكائه ، وائل يحلم بأن يكون أصغر من يحصل على جائزة نوبل - و أتمنى أن يحقق حلمه – و لكن ربما أحلام أحمد أبسط كثيراً ، ربما كان حلمه بالأمس أن يحصل على جنيهات قليلة ربما تكون ثمناً لعشاء بسيط له و لأسرته ....... شعرت أمام أحمد بضآلة و ربما بتفاهة أكبر مشكلاتى ، شعرت أن أحمد أهم كثيراً من خروجنا من كأس العالم أو فوزنا بكأس إفريقيا ، أهم كثيراً من جمال مبارك و يوسف بطرس غالى و عمرو خالد و أسقف نجع حمادى ، بل و أهم كثيراً من الضريبة العقارية و الفتنة الطائفية ....... نعم أحمد أهم من كل هذا و من كل هؤلاء ، أحمد هو الإنسانية كلها و المستقبل كله ، أحمد و ألاف أو ملايين أمثاله هم مستقبل هذا الوطن ....... قلت ليذهب تعاطفكم إلى الجحيم فلن يفيد أحمد فى شئ ، الأمل الوحيد لأحمد و لملايين مثله - و لأطفالكم أيضاً - أن نصنع له و لهم و بأيدينا وطناً يعرف معنى العدل ، وطناً لا يحكمه أوغاد و فسدة ، وطناً يضمن لأطفاله حقوقاً متساوية ، وطناً يؤمن بأنهم المستقبل كله ، و أن بدونهم لن يكون هناك أمل فى غد .... لا تسائلوا أحمد لو تلوثت براءته و أنحرف يوماً ما ، لا تسائلوه لو إعتدى على أحد أبنائكم يوماً ما فربما عيره بفقره أو ببيعه للمناديل الورقية فى الثانية بعد منتصف ليلة إمتحانه الأخير .... سيسألنا أحمد و الاف أمثاله ماذا فعلنا من أجلهم يوماً و جميعنا سنحمل الوزر و العار فجميعنا نتحمل المسئولية ، أحمد وملايين مثله هم مسئوليتى ومسئوليتكم ولكن أحمد لا يحتاج تعاطفاً أو إحسان ، مسئوليتنا أن نصنع لهم وطناً يحميهم ، وطناً حر يعرف قيمة أبناؤه ، وطناً حر لأبناء أحرار ...
قبل أن يغادر المقهى إلتفت أحمد إلى من بعيد و تبادلنا الإبتسام و مضى ........
الشبلى : الشر
ماذا تعنى بالشر
الحلاج : فقر الفقراء
جوع الجوعى ، فى أعينهم تتوهج ألفاظ لا أوقن معناها
أحياناً أقرأ فيها
" ها أنت ترانى
لكن تخشى أن تبصرنى
لعن الديان نفاقك
أحياناً أقرأ فيها
"فى عينيك يذوى إشفاق ، تخشى أن يفضح زهوك
ليسامحك الرحمن
قد تدمع عينى عندئذ ، قد أتألم
أما ما يملأ قلبى خوفاً، يضنى روحى فزعاً و ندامة
فهى العين المرخاة الهدب
فوق إستفهام جارح
"أين الله" .... ؟
صلاح عبد الصبور .. مآساة الحلاج
Labels: مصر