.. أسئلة حول ما حدث
الغياب الأمنى أيضاً يثير التساؤل و ربما الشك ؟
أيها السادة...لم يبق إختيار.. سقط المهر من الإعياء... و أنحلت سيور العربة... ..ضاقت الدائرةالسوداء حول الرقبة ..صدرنا يلمسه السيف ..و فى الظهر ..الجدار
بدأت التداعيات بتعليق للعزيزة نرمين على تدوينتى السابقة "الثلاثون.. دوائر فى نقطة المنتصف " ، كتبت فيه إنه لولا دوائرى ما كنت أنا أنا ، و بدأ فيض من الأسئلة يتدافع هادراً يقتحمنى من كل صوب : و من أنا ؟؟ أترانى أعرف ذاتى حقاً ؟ أم ترى ما أعرفه عن ذاتى محض وعى زائف ؟ قـرأت منذ ساعات تدوينات إنسانية شديدة العمق لصاحبة "الحرملك" و صاحبة "الحاجات التانية" عن معاناة إنسانية و مأسى صغيرة لبشر تصادف أن يكن إناث ، و تزداد أسئلتى صعوبة : لماذا كل هذا ؟ لماذا يعانى البشر بسبب بشر أخرين ، بسبب ثقافة و أديان و مجتمعات ؟ لماذا يتحول الأخرين فى أحيانٍ كثيرة إلى جحيم ؟ لماذا الأخرون دائماً ؟
اقرر الذهاب للمقهى فى الثانية صباحاً ، أبحث عن رواية أبدأ فيها و أختار "نثار المحو" لجمال الغيطانى ، إبتعتها منذ ما يقرب من العام و لم أقرأها ، لماذا اخترتها الآن ؟ يبدو أنها "روح العالم" ، الإختيار متوافق تماماً مع حالتى و تساؤلاتى ، أبدأ فى القراءة لتراوغنى الأسئلة ، تهزم كل ما أتصوره يقينى ، العنوان بليغ شديد العمق " نثار المحو" ، حين تنظر ورائك فى سنواتك التى هربت : " المحو" و ما تبقى منها فى ذاكرتك هو مجرد "نثار" ، نثار ذكريات : أشخاص و أماكن و مواقف ومشاعر ، وجوه و ألوان ، أهذا كل ما يبقى ؟
كتبت فى التدوينة السابقة عن "حلم كبير" بإسهامة بسيطة حقيقية تفيد الوطن و البشر ، ترى بماذا يشعر هؤلاء العظماء الذين صنعوا خيراً للبشرية ؟ أتراهم يشعرون من الأساس بأى شئ ؟ ما الفارق بين " مرثية رجل عظيم " و "مرثية رجل تافه" ؟؟ ما قيمة ما نعطيه أو ما نصنعه للأخرين ؟ أو بشكل عكسى : ماذا كان سينقص من الحياة لو لم نعط أو حتى لو لم نوجد من الأساس ؟ تبدو الأسئلة عدمية ... هل الحياة أيضاً كذلك ؟
ما هى الحياة أصلاً ؟ م أهدافها ؟ أهى محض صدفة تطور ؟ أم أن لها هدفاً ما ؟ و إن كان لها فما هو؟
أشعر أن الحياة قصيرة للغاية أو سريعة للغاية ، فها أنا أذكرنى فى التاسعة عشر من عمرى و أنا أبدأ فى أول قصة حب حقيقية فى حياتى ، أذكر اللقاء الأول و التعارف و المشى ساعات على البحر و مفاجأة إكتشاف من تظنه توأماً لروحك ، اذكر فرحة و براءة البداية ، أذكر هذا كله و كأنه منذ ساعات ، لقد مر أحد عشر عاماً ، مروا يلهثون بسرعة شديدة ، لم يبق إلا "نثار"...
أعجز عن تدوير ما يمتد فى نفسى إلى كلمات ، تداهمنى أسئلتى ، تباغتنى ، أشعر بأننى فجأة فى فراغ بلا ملامح ، بلا إشارات ، حالة من قسوة اللا يقين ، يتزعزع ما صاغته خبرتى الحياتية البسيطة من نظريات .. ترى هؤلاء من يمتلكون يقينيات سعداء ؟ هل سيقومون و لو مرة بممارسة خيانة يقينياتهم الثابتة تلك ؟
يزداد إنهمار الأسئلة خلال عودتى من المقهى ، أقرر أن أكتب ، أبحث عن قلمى الحبر ، لا أجده ، لست منظماً على الإطلاق ، بل قد أستطيع أن أقول و أنا مطمئن أننى أكره النظام و أحب ذلك فى نفسى ، أرى الفوضى أكثر إتساقاً مع ناموس الحياة ، و أنا أبحث فى كل مكان حتى فى مطبخ شقتى الصغيرة تمنيت فى تلك اللحظة لو كنت منظماً ، إلى هذه الدرجة قد يغير من تصوراتنا شئ تافه كالبحث عن قلم ؟ لدى قلم حبر أخر أكثر فخامة و أغلى ثمناً و لكننى أحب الأخر ، ليس أجمل شكلاً و لكنه أكثر رشاقة ، لون حبره الأزرق العميق أقرب إلى نفسى ، ليس لكل هذا علاقة بوظيفته التى يؤديها أى قلم أخر : الكتابة ، لماذا نتعلق بأشياء بسيطة كقلم ؟ لماذا تخلق فينا أشياء بسيطة أحاسيس ما تتفاوت فى عمقها و متتاليتها ؟؟
أسأل الآن عن أسباب و قيمة وجودى و كنه ذاتى و حياتى ، و بعد ذلك يجب أن أرتدى وجه " أنا" الأخر ، يجب أن أبدأ فى قراءة بروتوكول لدراسة طبية كجزء من عملى ، دراسة ستبدأ لتحوى ألاف المرضى و يبدو هدفها المعلن شديد النبل و هو تحسين حياة هؤلاء المرضى ، أعرف تماماً ما ورائها ، إنه فقط زيادة الأرصدة البنكية لأصحاب أسهم شركة الدواء العملاقة التى أعمل بها ، ربما يكون تحسين حياة المرضى أثراً جانبياً للدراسة .. مفارقة! .. أعرف ذلك ، لماذا أفعل هذا ؟ لماذا يفعل البشر هذا ؟ لماذا نشيئ بعضنا بعضاً ؟ لماذا نستهلك الجميع : ذواتنا و الأخرين؟ هل نحن / البشر كائنات عاقلة حقاً ؟؟ لماذا بعد كل هذه الألاف من تاريخ البشرية لسنا سعداء ؟؟
تحيطنى الأسئلة من كل جانب ، تجتاحتى من أقصاى إلى أقصاى ، ينهار تحت وطأة إندفاع كل منها يقين ما..
تبقى الأسئلة بلا إجابات ...
ما كنه الحياة و الإنسان ؟
ما قيمة الإنسان ؟
ما كل هذا الذى يحدث حولنا فى حياة فقدت عقلها إن كان لها عقلاً من الأساس ؟
أنا لا أذكر شئ من حياتى الماضية
أنا لا أعرف شئ من حياتى الأتية
لى ذات غير أنى لست أدرى ما هيه
فمتى تعرف ذاتى كنه ذاتى ؟
لست أدرى
..
أننى جئت و أمضى و أنا لا أعلم
أنا لغز .. و ذهابى كمجيئى طلسم
و الذى أوجد هذا اللغز.. لغز مبهم
لا تجادل .. ذو الحجى من قال انى
لست أدرى
إيليا أبو ماضى – الطلاسم
حقاً لست أدرى...
عام كامل و أنا أنتظره ، أخشاه ، أراه قادماً .. أراوغ ، أحاول الهرب و لكنه باغتنى و أتى ....اليوم
بعدت ولادتى فى الزمن تلاتين سنة
صبحت تاريخ زى السيوف و السقايين
زى الشراكسة و الشموع و السلطنة
زى الخيول .. ضاعت سنينى فى السنين
صلاح جاهين
جاء اليوم الذى أحسبه نقطة منتصف العمر مباغتاً ، حاملاً أسئلة عدة : مباشرة ، عميقة ، عصية على الإجابة ، أسئلة تأتى فى لحظة زمنية أبدأ بعدها العد تنازلياً ، أى تنازلات من الآن تبدو غير قابلة للإسترداد ، مجانية...
جاء اليوم حاملاً معه أسئلته قاذفاً بى فى دوائـر تتنازعنى ، تملأنى وجلاً و حيرة ، قلقاً تخرج من رحمه متتاليات نفسية قاسية ، أحاول ان أغوص فى بعض دوائرى علنى أسبر بعض أغوارى و أغوراها...
دائرة أولى : وجع البعاد
" ولا هد قلبى العليل غيرك..غيرك يا وجع البعاد"
دائرة تزداد ضيقاً فى كل يوم ، تعتصرنى داخلها ، دائرة "وجع" إبتعد فيها أحباب و غابوا للأبد تاركين أثر هو الأعمق على الإطلاق ،غابوا تاركين شجناً لا ينتهى : يتناسخ ويكبر ليملأ جنباتى ، ووجع إبتعاد أحباء أخرين بإرادتهم تاركين لى ألم و أسئلة بلا إجابات ، و"وجع بعاد" أخرين أحبهم : أسرتى ، صديقات و أصدقاء أحبهم كثيراً ، أفتقد وجوههم ، شعورى معهم بذلك الدفء ، بالأمان ...
يا بعيد عن العين يا ساكن جوا أرواحنا
وجع البعاد فى ليالى الشوق يطوحنا
هو إحنا نوحنا غير لما الوجع فينا زاد
ربما يبدو البعاد الأخير مؤقتاً و لكن يبقى الخوف من " اللقا التانى" ، هل حينها ستكون الوجوه و الأهم الأرواح هى ذاتها ، من سيتغير ؟ ، هل ستتلاقى الأرواح لحظتها لتعيد تخليق مشاعر الأمان و الثقة و فرحة اللقيا ؟
أم ستلتقى الأرواح و بينها "صداقة عميقة كالفجوة" ؟
نعم إلتقيت أثناء "البعاد" بأخرين – قليلين للغاية – خلقوا لى قدراً – كبيراً - من الدفء ،أظن سيوجعنى بعادهم حين أعود
تبقى الأسئلة بلا إجابة حتى العودة و التلاقى ( و الفراق !!) ، هل سيبقى دفء الأحضان – أشعر به فى لحظات العودة القصيرة – بعد أن ينقضى البعاد ، أم ستسبب الأحضان ببرودتها "وجع" أشد قسوة من "وجع البعاد"؟
دائرة ثانية : "ليه كل ما أمسك هى تسيب ؟"
أتراها مازالت تذكر ؟
و قلت لها بأن الحب ما يصنع بالإنسـان إنسانا
و أن الحب ....
عندما يصبح انسان حقيقة
عندما يبحث فى ظل العيون السود عن عين صديقة
و يراها ......
عندما يحلم بالبيت ، و بالدفء علي مخدع نظرة
و يوارى خوفه فى متكاها
عندما يحلم بالاطفال و النزهة فى إصباح جمعة
عندما تمزج فى عينيه أشواق و دمعة
عندما يشرع انسان لإنسا ن جناحه
و ينا غيه دلالاًً و سماحة
عندما يصبح ما مر من الايام محواً
لم يكن حينا حياة القلب
عندما يصبح كل اللفظ لغواً
غير لفظ الحب
و غمغم الصوت ، وأنبهم
لحني ، فلتسعف الدموع
صلاح عبد الصبور
صوت وجيه عزيز من بعيد :
أنا جرحى مش حزن و بكا ..
أنا جرحى شئ تانى
..
ليه بتلمونى هو إنت إخترت الغياب
.
.
.
هو اللى فاتنى لدمعتى و القلب نار هو
دائرة ثالثة : قلب الوطن مجروح
طول عمرى عارى البدن و إنت جلبابى
ياللى سهرتى الليالى يونسك صوتى
متونسة بحس مين يا مصر فى غيابى
زجال، مهرج، مركب صوتى فى لسانى
و صحيت لقيتنى أعرفك و إنت عارفانى
دائرة تحوى داخلها كل دوائرى ، لا يمكن لأيهم أن يهدأ دورانها بدون تلك الدائرة ، يبقى الحلم بالوطن متقاطعاً و حاوياً فى نفس الوقت لكل الأحلام ، يبقى الأمل الذى كنا نعبر عنه فى سنوات البراءة بذلك القول الشائع بين المراهقين بأن " نعيش عيشة فل.." ، حلم جماعى حلمناه لشلة مراهقين و ها أنا أراه فى بساطته معبراً عن حلم فردوسي للوطن ، حلم بوطن متقدم حديث حر يحب و يحترم و يحفظ حقوق أبنائه جميعاً بلا تفرقة و يحبه أبناؤه جميعهم ، حلم أتمناه قريب ، أؤمن إنه إن بدأ فى التحقق فسيتحرك متسارعاً مسابقاً للزمن ، و لربما أدرك رؤياه متحققاً قبل وصولى لنقطة النهاية ، و لكن الحلم مراوغ يقف فى طريق تحقيقه سدود..
هل سيظهر هذا المارد الذى سيحقق الحلم ؟؟ الذى سيصنع جنتى و جنتنا ؟ أتمنى..
دائرة أخيرة : الأحلام
سؤال .. بسألك إيه أخرة الأحلام
ليلاتى وخدانى فى بحر م الأوهام
محمد منير
لم أحقق بعد كثير من الأحلام و حتى البسيط منها ، مازلت صغيراً " بتقول علىَ كبير السن .. و أنا فى قلبى ولد كتكوت " و لكن كبرت أحلامى مع السنوات و بقى أهمها: إسهامة بسيطة و لكن حقيقية لخير الوطن و البشر، إسهامة يذكر بعدها البعض أن أحد ما مر من هنا تاركاً أثراً و لو صغير ، لم تتضح بعد ملامح حلمى ، الكبير لى ، و ربما الصغير مقارنة بإنجازات أخرين ، و لكنه حلم إنجاز و لو كلمة صغيرة فى قاموس الحياة
أتت لحظة المنتصف و يوم الميلاد و " العمر فايت بيقول آه " ، تأملت فى دوائرى وجدتها تتقاطع ، تتماس ، تتباعد ، تتمازج ، تتماهى ، تجذبنى فى أطراف شتى ، تجتاحنى أحدهم فى لحظات و تتحول من دائرة إلى دوامة تكاد تغرقنى لتجذبنى دائرة أخرى و هكذا دواليك.
حاولت قراءة تاريخى ، لحظاته المؤلمة ، نجاحاته ، إنجازاته ، كيف تغيرت رؤيتى لذاتى ، قدراتى ، أحلامى ، قناعاتى ، مواقفى ، مشاعرى : ربما وحدها لم تتغير كثيراً فمازال هناك طفل صغير بداخلى ممسكاً بتلابيبها ، رافضاً التنازل عن بساطة و براءة و صدق و حب ، ينازله أحياناً كثيرة " كبير بالغ" يعرف الغضب و ربما الكراهية ، قادر أن يراوغ ، أن يناور ، أن يضرب . ربما يبدو فى لحظات أن النزال خرج منه "الطفل" مهزوماً و أن "البالغ" هو من إنتصر و لكن حين يجلسان سوياً .. وحيدين ، يبكى "البالغ" على أكتاف "الطفل"... ما أحلى الرجوع إليه.. . ربما يوماً ما حين أكتب سأستعير ذلك العنوان الذى إستعمله الدكتور يوسف إدريس " من طفل فى الخمسين " ...الخمسين .. يا للهول