(1)
أثار بيان المجمع المقدس للكنيسة القبطية بدعوة الرئيس مبارك لللترشح لدورة رئاسية خامسة و أحاديث البابا شنودة لجريدتى الأهرام و الأخبار بعد ذلك ردود أفعال واسعة ، من حديث عن لعب الكنيسة القبطية لأدوار سياسية و عن أحقيتها الحديث بأسم أقباط مصر سياسياً من عدمه و ظهرت أسئلة عدة
هنا و
هنا :
لماذا؟ ما الذي دفع الكنيسة للقيام بذلك؟ هل تراهن على الجواد الرابح؟ ما الذي ستربحه؟ هل ستقوم الكنيسة بمثل هذا في كل انتخابات؟ و هل ستشارك في لعبة السياسة من الآن فصاعدا؟ هل يحق للكنيسة أن تشجع الأقباط على اعتناق مواقفها السياسية؟؟ وما موقف الشعب من ذلك؟؟؟ و ما موقف المسيحيين من الحركات الداعية للتغيير؟
و دار أيضاً فى نفس السياق حديث أخر- أقل جلبة – عن مواقف الأزهر و دار الإفتاء من الدولة من تأييد مستمر غير مشروط.
ردود الأفعال هذه توحى كما لو أن هذا التأييد من المؤسسات الدينية فى مصر للسلطة هو موقف مفاجئ و مخالف للسياق العام ، غالبية ردود الأفعال تسقط من قراءتها للمشهد الحالى ما حدث فى الخمس و الثلاثون عاماً الماضية منذ قام نظام الرئيس السادات بتديين الحركة السياسية و تغييب قيمة المواطنة بشقيها السياسي و الإجتماعى ، منذ أن أعلن الرئيس السادات أنه " رئيس مسلم لدولة مسلمة " و إنتهى هذا بتعديل الدستور بعد الإستفتاء على ذلك فى مايو 1980 وأيضاً إنتهى بإستبعاد الأخر القبطى من الوطن ، هذا مع دخول فهم متزمت للإسلام قادم من الجزيرة العربية خلق حالة من التعصب أدت إلى احداث طائفية من الخانكة 1972 إلى الكشح 1999 .
-
سؤال محيرنى : لا أفهم حقاً ما معنى أن كيان إعتبارى مثل الدولة يمكن أن يكون دينه الإسلام أو المسيحية ؟؟ هل يمكن أن تؤدى الدولة مثلاً فريضة الحج أو تذهب لحضور قداس عيد الميلاد -
أقول منذ أن قام نظام السادات بتديين الحركة السياسية فى مصر و تحالف مع تيارات الإسلام السياسى مستبعداً المواطن المصرى القبطى من المعادلة و العلاقات بين ما هو دينى و ما هو سياسى و بين الدولة و المؤسسات الدينية و التيارات الدينية جميعها علاقات ملتبسة.
على حسب
حنا جريس فى
حديث أجرته معه شبكة إسلام أون لاين
"
أدى انسحاب الدولة من الخدمات الاجتماعية وعدم وجود مجتمع مدني للقيام بهذا الدور إلى قيام المؤسسة الكنسية في ظل قيادة كنسية اتسع لديها مفهوم الرعاية الروحية ليشمل معظم جوانب الحياة الشخصية للقبطي بهذا الدور، وانتشرت في الكنائس فرص النشاط الرياضي والفني والسياحي، وأصبحت الكنيسة المكان المناسب للهروب من الدولة والتيار الإسلامي معا "
هذه نقطة محورية لفهم ما حدث سواء للمؤسسة الكنسية أو للمواطن المصرى القبطى فى السبعينيات : إنكفاء للمواطنين- هرباً من مناخ طائفى محتنق - داخل المؤسسة الكنسية التى فرض عليها النظام و المناخ السياسى و الإجتماعى أن تقوم بأدوار- سياسية و إجتماعية- هى فى الحقيقة ليست أدوارها .
(2)
على حسب سمير مرقس فى كتابه " الحوار ... الآخر ... المواطنة " الصادر عن مكتبة الشروق الدولية 2005 قسم مسيرة " المواطنة المصرية" فى تاريخ مصر الحديث إلى مراحل خمس :
مرحلة بزوغ المواطنة – إقرارها من فوق ( محمد على )
مرحلة تبلور المواطنة – الإلتفاف القاعدى حول المواطنة ( ثورة 1919 )
مرحلة إبتسار المواطنة – الإقتصار على البعد الإجتماعى للمواطنة (1952 – 1970 )
مرحلة تغييب المواطنة – تديين الحركة السياسية ( 1970 -1981 )
مرحلة إستعادة المواطنة – محاولة إستعادة المسار الطبيعى للمواطنة ( 1981- )
هنا يلفت سمير مرقس النظر إلى مواكبة قدرة المواطن المصرى على ممارسة المواطنة مع لحظات النهوض الوطنى و العكس ففى لحظات الإنتكاسة تتراجع المواطنة ، و إرتباط هذا كله بقدرة البناء السياسي على الإستجابة للبناء الإقتصادى – الإجتماعى السائد و هذا يساعدنا على رؤية المشهد الحالى.
منذ 1981 حاول النظام الحالى على المستوى النظرى إصلاح الشق الذى أحدثه نظام السادات فى الجماعة الوطنية ، فالنظام يؤكد على قيم المواطنة و المساواة طوال الوقت معتبراً أن جزء من إنجازاته هو إستعادة الوحدة الوطنية فى حين أن هذا الإنجاز متعثر على أرض الواقع على أكثر من مستوى بدء من شكاوى المواطنين المصريين الأقباط من سخافات فى بعض المواقع أو من شكوى دائمة للكنيسة / المؤسسة من التعامل مع الجهاز الإدارى و الأمنى أوحتى من قصة بناء الكنائس مثلاً ، و حتى على ذلك المستوى شديد الخطورة الذى تحدث عنه الدكتور رؤوف عباس فى مذكراته " مشيناها خطى" حين ذكر أنه حين رشح أسم د. يونان لبيب رزق لوضع إمتحان الثانوية العامة عام 1992 كان رد المسئول الكبير بوازرة التربية و التعليم " أن الأمن مانع
أهل الذمة من وضع الإمتحانات " و أقسم المسئول بعد ذلك بـ " تربة أبوه " أن تلك تعليمات معروفة للجميع و لا يملك أحد الخروج عنها و هذا الموقف لا يختلف عن موقف أخر ذكره الدكتور رؤوف عباس فى مذكراته حين رفض نظام السادات مشاركة أساتذة أقباط فى هيئة تدريس " معهد الدراسات الوطنية " الذى أنشأه الرئيس السادات لمواجهة " الأوساخ الذين يسمون أنفسهم الناصريين" كما وصفهم الرئيس السادات بنفسه فى لقائه مع الأساتذة فى الإسماعيلية ، ما ذكره الدكتور رؤوف عباس هنا خطورته تأتى من أنه يوحى بأن النظام مواقفه المبطنة لا تختلف كثيراً عن النظام السابق ، هنا أرى أن تعثر إستعادة الوحدة الوطنية مرتبط بما هو أهم أقصد
عجز/عدم رغبة السلطة فى إستعادة قيمة المواطنة لكل المصريين مسلمين و مسيحيين على المستويين السياسى و الإجتماعى و إستعانتها بالمؤسسات الدينية الأزهر و الكنيسة للوصول إلى رجل الشارع من مدخل دينى يضفى عليها الشرعية الدينية إسلامياً ويبررها مسيحياً على حسب نبيل عبد الفتاح فى مقاله " جهاد الهلال و الصليب تحت راية الشرطة " بجريدة الدستور 10/8/2005 ، و هنا أيضاً كرس النظام فكرة وجود "البعبع الإسلامى"/ الإخوان على أنه البديل الوحيد المطروح على الساحة – و هو ربما ما كان صحيحاً فى العقدين السابقين- ليقيم تحالفاً مع الكنيسة /المؤسسة التى تتعامل مع المسألة بمنطق الفقه الإسلامى من أن درء المفسدة – الإسلام السياسى فى هذه الحالة- مقدم على جلب المنفعة – إحتمالية ظهور نظام أكثر عدالة- ومن هنا
فى تصورى يمكن قراءة المواقف الأخيرة للبابا شنودة فالتحالف مع الدولة- ضد العدو الوهمى - فى تصوره هو موقف لصالح الجماعة الوطنية يتفق مع مواقفه الوطنية السابقة – و هى هامة- واضعين فى إعتبارنا أن ثورية البابا – الشاب الثائر فى منتصف القرن الماضى- و قدرته على قبول فكرة التغييرقد إختلفت الآن بعد نصف قرن قضى منه أربع و ثلاثون عاماً على كرسى البطريركية ( مع ملاحظة أن بيان التأييد فى الأغلب جاء بعد طلب مباشر من الدولة). و يبقى الأزهر لا حول له و لا قوة فى هذه اللعبة فهو مؤسسة تابعة للدولة لا ترقى حتى إلى درجة الحليف . الدولة إذن تخرج من مأزق عجزها السياسى و عدم القدرة على الوصول للمصريين بأن تصدر المهمة إلى المؤسسات الدينية الحليفة كما حدث وقت الإستفتاء على تعديل المادة 76 رداً على حملة المقاطعة من الأحزاب فيخرج شيخ الأزهر ليقول أن من لا يذهب للإستفتاء كمن يكتم الشهادة و يطلب البابا من الجميع المشاركة ، الدولة تقوم بممارسات ليس لها علاقة بقيم الدولة الحديثة و هنا لا نستغرب أن يعطى الإمام الأكبر رجال الأمن الحق فى إعتقال المتظاهرين مع أن التظاهر حق دستورى و لا نستغرب أيضاً أن بابا الأسكندرية يقول أنه لا يوافق على ترشيح مواطن قبطى للرئاسة لأن الرئيس يجب أن يكون من دين غالبية سكان الوطن(!!) متجاهلاً أن الغالبية فى الدولة الحديثة سياسية كما يقول نبيل عبد الفتاح- و هو يصف هذا الكلام بأنه طائفى بإمتياز- و أن الدستور لم يشترط إلا أن يكون رئيس الجمهورية من أبوين مصريين .
إذن فى إطار هذا التحالف بين الدولة و المؤسسات الدينية لا يجب أن نندهش من كل ما حدث من جانب المؤسسات الدينية التى دخلت اللعبة السياسية برغبتها أو بدونها لا يهم . و لكن على الجانب الذى يخص الكنيسة أرى أن كل ما يحدث يعكس أن المؤسسة الكنسية تحيا فى أزمة هى فى الواقع جزء من الأزمة العامة التى تحياها كل مؤسسات المجتمع ،و كل هذا لا يعفى المؤسسة الكنسية من هذا الخطأ الذى يعكس أيضاً عدم قدرة رجالها على قراءة المشهد السياسى الراهن.
(3)
فى تصورى أن السؤال الذى يستحق أن نبحث عن إجابته الآن هو كيف يمكننا الخروج من هذا المشهد الشديد التعقيد ؟ و ليس السؤال عن مبرارات لهذا الموقف أو ذاك ، و هنا تبقى الإجابة / الحلم : إستعادة قيمة المواطنة فى إطار دولة مدنية حديثة يكون لكل المواطنين فيها كل الحقوق إجتماعية و ثقافية و سياسية و مدنية ، دولة يشارك أبنائها فى صياغة مستقبلها ، مصر يتساوى فيها جميع المصريين ، دولة لا يوجد فيها سبب لوضع خانة الديانة فى البطاقة الشخصية أو إستمارات الثانوية العامة ، هنا و هنا فقط سيعود الأزهر و الكنيسة إلى الموقع الطبيعى : التحالف مع الناس لا مع الحكومة ، هنا ستتفرغ المؤسسات الدينية للدفاع عن القيم الإنسانية العليا ، الدفاع عن الحق و العدالة ، هنا سيعلن الأزهر و الكنيسة أنهم مع الحقوق العادلة للشعب الفلسطينى و لن يكون هذا تدخلاً فى السياسة و إنهم ضد البلطجة الأمريكية فى العراق و أيضاً لن يكون هذا تدخلاً فى السياسة ، هنا ستعود الكنيسة القبطية كما أسماها الراحل المفكر الكبير المستشار وليم سليمان قلادة "مدرسة حب الوطن" حين كانت الكنيسة الوطنية المستقلة هى المعادل / الحلم بوطن مستقل و سيعود الأزهر تلك المنارة التى تشع للمنطقة بأكملها.
و لكن سيبقى كل هذا مجرد حلم إن لم ننحاز نحن عبر ضغط شعبى متواصل إلى دولة مدنية حديثة رافضين دولة تستعمل الدين فى كل الألعاب السياسية و اللعب بالدين كما يقول إبراهيم عيسى نار ستلسع الجميع ، كل هذا سيبقى مجرد حلم إن لم ننحاز إلى دولة مدنية حديثة تستعاد فيها قيمة المواطنة بشقيها السياسى كما كان قبل ثورة يوليو حين يترشح مكرم عبيد القبطى فى مواجهة نقيب الأشراف فى دائرة ذات أغلبية مسلمة ليفوز مكرم عبيد ، و أيضاً الشق الإجتماعى – الكفاية و العدل- الذى دافعت عنه الثورة.
و يبقى تحقيق الحلم مهمتنا...