حين سقطت النخلات العاليات و انكشف رعب الشمس
مشهد مخيف : ملثمون بملابس سوداء و رهائن – واحد وعشرون - بملابس إعدام برتقالية ، أسلحة بيضاء علي الرقاب فى وضع الذبح ، إخراج سينمائي لمشهد بشع ، المشهد ليس متخيلاً ، المشهد يصور و يذاع ، يراه الملايين ، سفاحون يتحدثون عن أسامة بن لادن ، ضحايا يبدو عليهم هدوء غير مفهوم يفسره كل كما يهوي ، هل لم يفكر أحد الضحايا فيما أتي به إلي هنا و الآن ؟ إلي "صحراء" بعيدة بألاف الكيلومترات عن حيث ولد في قلب صعيد مصر ، فى نقطة وسيطة من أرض تعلم أصحابها الزراعة منذ الاف السنين ، روضوا النهر العنيف ، و صنعوا حضارة بجوار النيل ، تأملوا الطبيعة و أبتكروا ميثولوجى لتفسير ظواهرها ، زرعوا نخيلاُ أعطى الطبيعة رسوخاً و بنوا مسلات تشبهه تقارب السماء ، إخترعوا كتابة و دونوا ، تركوا أثار مبهرة ، لكن الحفيد يُذبح فى صحراء لا يعرفها ، صحراء هى نقيض لحضارة خلقها أجداده من الزراع ، صحراء تحيا بنمط مغاير ، بقيم مغايرة ، بإقتصاد مغاير ، بنمط علاقات مغاير ، الحفيد يذبح الآن في لحظة تتصارع فيها أطراف لا يعرفها – بخسة - فيما ليس يخصه و ما لا يفهمه و لكن علي جثته ...
26 دولار أمريكي هي الأجر الذي كان يحصل عليه يومياً "كيرلس بشرى" ذو الإثنى و عشرون عاماً المولود في المنيا ، هى الثمن الذى دفع حياته ليحصل عليه ، كيرلس جاء مثل الآف المصريين من العمالة غير المؤهلة بحثاً عن واقع أفضل ، عن دخل أكبر لا يستطيع توفيره هناك في قريته ، لم تعد الزراعة تدر دخلاً يكفي ، توقفت الدولة - تقريباً - منذ عقود عن تنمية قريته و ربما محافظته ، لا أظن أن كيرلس و زملاؤه إختاروا "الغُربة" ، لقد تم "تغريبهم" ، هم ليسوا كأبناء الطبقات الوسطى أو العليا الذين يهاجرون إلى أمريكا الشمالية أو أوروبا أو حتى دول النفط الخليجية لأسباب متعددة ليس منها بالقطع توفير الحد الأدنى من الحياة لذويهم ، كيرلس و زملاؤه سافروا ليحصلوا على هذة الدولارات القليلة يومياً - ربما بغير إنتظام - فقط ليحيوا ...
لا أعرف إن كان أحد هؤلاء الشباب المغدورين فكر إن كان بعض أبناء الطبقة الوسطى من المتدينين المحافظين سيعتبرونه "شهيد" بالمعني الديني أم لا ، لا أعرف إن كان أحدهم قد إهتم بهذا أم لا ، ربما أحدهم تمنى للحظة لو لم يغترب ...
"النخل راح ضله " ، سقط الأبناء ضحايا فى عرض دموى مخيف ، صلاة جنازة يحتشد فيها أهالى القرية في كنيسة صغيرة يغطى سقف مذبحها خوص النخيل ، يبكون من رحلوا و ما ذهب معهم ، عائلات ممتدة إختلط حزنها على فقد ابناء و أباء برعب مستقبل أصبح أسوأ كثيراً مع غيبتهم النهائية ، القرية الفقيرة و ناسها ضحايا لسياسة و إقتصاد ، لصراعات إقليمية و دولية ، لدولة لا تقوم بأدوارها التنموية ولا الإجتماعية ، لأيدولوجيات كراهية يقول أصحابها أنهم يمثلون الله ، لنخب إقتصادية جرادية النزعة تأتى على الأخضر و اليابس ...
أظن أن عائلات "العور" التى رأت بأعينها بشاعة الذبح و بشاعة الواقع ، العائلات التى فقدت أبناءها و معهم الكثير من مستقبلهم ربما يعزيهم قليلاً وصف أبناءهم بالـ "شهداء" و لكن ما أعرفه أن أبناء هؤلاء "الشهداء" و أبناء كل عائلات العور و كل القري المماثلة يستحقون أن يحصلوا على فرص عادلة للحياة فى وطنهم ، هؤلاء الأبناء و حقهم فى الكرامة و العدالة الإجتماعية و الحرية أهم كثيراً من تعاطفنا ، حقهم فى إقتسام عادل للموارد أهم كثيراً من إعتبار أباءهم شهداء ...
أستعير عنوان ما كتبت مما كتبه المخرج الكبير الراحل رضوان الكاشف على الشاشة في نهاية فيلمه "عرق البلح" : حكاية قرية رحل عنها الظل حين سقطت نخلاتها العاليات و أنكشف رعب الشمس ...